تشرق
الشمس، مجموعة لآليء متماسكة. تبدو كوجه صبيّة لم تعرف القيظ أو الجفاف.
أحسّ بها (الشيخ) أكثر دفئاً وجمالاً، بعد توحّد امتدّ منذ دقائق الفجر
الأولى، وقد استأنس لطلائع أشعّتها، كما يأنس لملامسة أنامل (فطمة) رفيقة
دربه، وهي تخطو مبسملة، نحو مخدعه لإيقاظه، ومرافقته حتى حدود السكينة
التي تطوّق المنزل..
- سبحانك ربّي، ولا إله إلا أنت.
يلفّ الثوب الفضفاض حول جسده، وبياض الأشياء يستقبل بشائر الأشعّة. يبدو
له خروجه المبكّر لذيذاً، ومثيراً إلى درجة الإحساس بالنشوة. يبتسم
منطلقاً ليجتاز حدود مكان توحّده الممتدّ كالحلم.
يتوقّف بعد مسير. تظهر خلفه المنازل والتضاريس، في اختلاط الألوان
والأضواء، كرسوم في لوحة، تستريح النظرات فوقها. يحدّد الجهات الأصلية،
يفرش سجادته الصغيرة، ويبدأ بأقدس الكلمات:
- الله أكبر.
يشاركه في تكبيره صوت قبّرة وحيدة يتسلّل إلى أعماقه. يخال نفسه بعد ثوانٍ
كطائر يأخذ به جناحاه إلى فضاء رحب فسيح مغمور بالأضواء والألوان. تخفق
يداه في وشاحين من نسيمات المكان المطلّ على جميع التضاريس. تتجمّع في مدى
جناحيه الممدودين عرائس كعرائس الجنّة، وأثوابهنّ الزاهية تخفق وتنداح.
يأبى أن يشوّه خلوته بأحاسيس أرضية، فيطبق عينيه مستسلماً لخشوع لا مثيل
له، ويغمره طوفان من الوله القدسي. يعلو صوته الشجيّ مرتّلاً، يجتاح المدى
المستسلم لسكينة عذبة، تُذهل وتثير حتى التلاشي.. يتألّق الوجه بالحبور،
ويرتفع الصوت عالياً، عالياً، بكلمات الله. والقبّرة الوحيدة تغادر
مكانها، كهمسة رقيقة، وعينا الشيخ المأخوذتان تلاحقان تحليقها بإحساس من
يوّد الاستمرار، لكنّ الشمس القادمة كوجه صبوح تدغدغ أعماق الشيخ، وتلثم
وجهه. يلفّ سجادته، وثوبه الفضفاض، شاكراً ربّه على نعمه. يستقبل الوجه
البيوت، هاتفاً متضرّعاً، طالباً الذرية الطيبة وحسن الختام. تومض في
العينين بقايا معادن متناثرة، وتبرز الألوان. تلتمع المسارب وأعالي
الأشجار، وتغرق الأمكنة في بحيرات من الضياء. يعود إلى الأرض رويداً
رويداً، ومسبحته الطويلة تسبق خطواته المتجهة إلى المنزل. يتناول إفطاره.
تحنو (فطمة) على أشيائه كأم. تفتح النوافذ، والأبواب، يرى الشيخ باحة
الجامع مدى واسعاً، تملؤه أشعة الشمس. يلمح يمامتين تتشّمسان، وحولهما
تناثر سرب من عصافير الدوري. يشاهد أحد غلمانه يشرع الباب الكبير. تصل
إليه نسيمات الطريق. يشرب ماء بارداً، ويغادر المائدة. تلحق به رائحة
البيت، ودعاء سيدته. يخطو فوق البلاط الأبيض. تتجمّع فوق ثيابه عيون
العصافير واليمامتين. يقترب من مجلسه. يقترب أحد الغلمان، في عينيه تنبض
اللهفة والتساؤل:
-سيدي.. في الباب سيدة.
يطالعه ثوب أسود. يتخذ مكاناً، ويجلس. يجيئه الغلام بكتاب كبير، يضعه أمامه، ويقف صامتاً:
- امرأة؟
- أجل.
- دعها تدخل.
يخفق ثوب الغلام. تمتدّ يد الشيخ. يتصفّح أوراقاً. يفتح الكتاب، ونسيمات
الطريق تعبر الباب، والباحة، ومساحة وجهه. يحسّ براحة. تحمل النسيمات
رائحة الحياة، والصباح، ورائحة أخرى، يحاول أن يرفع رأسه، فتتكسّر نظراته
فوق الصفحات، ويتلاشى إحساسه بالراحة. تهفو الرائحة وتزداد اقتراباً.
يتنامى في أعماقه إحساس بالخطر، فيطبق العينين، والرائحة الغريبة تغمر
المكان. يسمع صوت الغلام:
- أتريد شيئاً آخر يا سيدي؟
-لا..
سمع صوت خطواته مبتعداً، لكنّه لم يرفع رأسه. بدا إحساسه بضيق المكان
مزعجاً.. إنّه لم يعتد على زيارات النساء في الجامع. كنّ يزرن (فطمة)،
فتنقل إليه رغباتهنّ، وما يشكين من مشكلات. أمّا أن تأتي امرأة إلى
الجامع.. فهذا لم يحدث من قبل. استعاذ من الشيطان، واستغفر الله، فالجامع
بيت الله، ومكان عبادته، وهو ملاذ لكلّ عباده.
- جئتك في حاجة لن يقضيها لي.. سواك..
صوت جديد لا يعرف نبراته، لكنّه صوت واثق، وعميق. أحسّ به يوغل تحت جلبابه، ويلامس شيئاً ما، ساكناً، في أعماقه.
- لم أقصدك في المنزل، لأنّ ما أحتاج إليه لا يقبل وساطة، ولهذا جئت إليك، فذلك أدعى إلى الثقة، وأكثر ضماناً.
لم يقل شيئاً. ظلّ صامتاً كصخرة، ولمّا طال سكوته، قالت:
- ما توقّعت أبداً أن تكون كما وجدتك..
فوجيء بما قالت، وحاول رفع رأسه، لكنّه لم يستطع، وكان إحساسه بضيق المكان يزداد، وقد أخذت به ارتعاشات لم يعرفها من قبل. تابعت:
- كنت أحسبك أكثر الرجال كمالاً.
دارت الكلمات في رأسه. ربّما كان وخز الإبر أقل إيلاماً من شعوره.
سألت:
- هل ترفع رأسك قليلاً؟..
سمع صوته كصوت رجل منهك القوى:
- أتقي الله يا امرأة. أهذا ما جئت من أجله؟
سمع صوت تنفسها، وربّما سمع دقّات قلبه. ألا تكفّ هذه المرأة؟
قالت:
- أنا لا آتي أمراً منافياً للأخلاق: ولن آتيه، ولست في حضرة رجل سيء السمعة.. لقد انتقيتك من بين جميع الرجال..
انحسر الضيق الذي نزل به مذ عبرت هذه المرأة الباب والباحة، وتمكّن من كبح بعض انفعالاته، ورفع رأسه.
- جئت إليك كرجل فاضل أولاً، وكرجل يعمل لآخرته ودنياه، ويؤمن بالحياة كما
يؤمن بالموت، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومن بعده أئمة
المسلمين يوسعون للنساء صدورهم. فهل أخطأت السبيل؟..
أدار وجهه. سحابة بيضاء غشيت المكان، تناثر فوق أديمها نثار فوسفوري، ما لبث أن ازداد تلألؤا، وتوهّجاً، فتوهّج الفضاء. تابعت:
- أنا أدرك أنّي لم أخطيء، ولا أعرف إلى الخطيئة سبيلاً، وما قصدتك إلا لحاجة لن يقضيها لي.. غيرك.
استطاع بعد جهد أن يرفع نظراته إلى وجه المرأة التي ما تزال واقفة باحترام
وأدب. رأى شمساً تسفر عن حسنها ذات صباح ربيعي، فغضّ طرفه، وهو يشير إلى
مقعد في زاوية من المكان:
- ماذا تبغين يا امرأة؟
رآها جالسة عندما صعّد طرفه، فحمل نظراته إلى الكتاب الذي أمامه، قالت:
- إنني امرأة وحيدة..
لم يجد كلمة يقولها، لكنّ صوت المرأة ما لبث أن عاد إلى أذنيه:
- سقط زوجي في الجهاد، وليس لي من يهتمّ بأمري، ويقيل عثرتي، ويشاركني في حلو الأيام ومرّها..
ظلّ صامتاً، فتابعت:
- أنا امرأة ولود. وضعت غلاماً، ومات هو الآخر..
كان الأمر يزداد غرابة، والحيرة تجعل الرجل كقطعة جماد، لا يمكن لشيء أن
يغير في تضاريسها، ومع ذلك كان صوت المرأة ما يزال يندفع واثقاً وقوياً
يهدهد سكون الشيخ:
- قد يبدو الأمر غريباً، لكنّه ليس كذلك. فكّرت طويلاً قبل أن أقرر المجيء
إليك، ولم أفعل إلا لأني أعلم أنّ أخواتٍ لي خطبن بعولتهنّ في عهد النبي
الكريم، وبعد انتقاله إلى جوار ربّه..
دخل أحد الغلمان حاملاً وعاء مملوءاً بالماء، وضعه أمام الشيخ وانصرف. وعندما ابتعد، عادت المرأة إلى الحديث:
- وجدت أنّ حاجتي لديك.
رفع رأسه، كان يشعر بإرهاق، وكان يشعر بحيرة ما عرف لهما مثيلاً.
سألها:
- ما.. حاجتك؟
ابتسمت بامتنان، وقالت:
- ليس عيباً أن تبحث الأنثى عن بعل تملأ حياته بالراحة والسعادة، وتمنحه ما يفتقد، وقد ضنّت عليه أنثاه بولد يرث الحياة من بعده.
كبرت حيرته، وامتدّت يده إلى وعاء الماء.
- أنت تحتاج إلى الولد الذي يرث الحياة، كما أحتاج إلى الرجل الذي يشاركني في أحزان الأيام وأفراحها.
جرع الماء كما لم يتجرّعه من قبل. اندلقت قطراته لتبلل صدره وثيابه، بينما المرأة تنتصب واقفة:
- سأترك لك وقتاً للتفكير. أنت تحتاج إلى الانفراد بنفسك، لتقرر ما يجب.
عبرت الباب الصغير، والباحة، والباب الكبير، وبقي الرجل وحيداً. أحسّ أنّه
كالقابض على جمر. وبعد لحظات بدأ يستعيد ما حدث. تلّمس وجهه، ورأسه. مدّ
نظراته إلى الخارج. لم ير اليمامتين وسرب عصافير الدوري كذلك، وكان السكون
يهيمن على كل شيء.
عاد إلى نفسه رويداً رويداً. ربما راوده إحساس باقتراب العاصفة، لكنّ
الأمر ابتعد كثيراً عن المدار الذي توقّع، فهو أبعد ما يكون عن التطرّف،
وليس الإيمان أن تكون معقّداً، فالمؤمن الحقيقي كالينبوع الصافي، أكثر
صفاء. إنّ المرأة تدخل وتلامس الجذور. والسرّ يكمن في هذه الشفافية
الممتدة عبر العلاقة بها. عبر الاتصال الحميمي. الطبيعي، والسامي معاً.
ولم تكن المرأة، القطب الثاني للحياة، سبيلاً إلى الضلال أو الانحراف، إذا
كان مسارها يلتقي مع الضرورة والحياة. وهو كما قالت يحتاج إلى الاستمرار،
و(فطمة) لا تستطيع. لا ذنب لأحد في الموضوع، وهو يكنّ لها ما يجب، لكنّها
لا تستطيع أن تكون إلا (فطمة) التي تقترب من حدود الأم، رغم أنّها لا تعرف
الإنجاب.
بدأ قيظ الظهيرة يدنو من حجارة الجامع، ويدخل عبر الأبواب والأنفاس، لكنّ
الشيخ لم يشعر بالوقت الذي يمضي. قال لنفسه: مع ذلك لابدّ من التفكير.
قال: إنّ ما حدث كان طبيعياً، ومقبولاً أيضاً، فقد خطبت نساء فاضلات من هم
أعظم منه وأعرق في الدين والإيمان، والمرأة ناضجة، ومتفهمة لدورها في
الحياة، وراغبة عن قناعة ووعي، ولقد اختارت، وما أحسب أن أحداً يستطيع
القول أنّها سلكت سلوكاً غير لائق، وربما كان من حقّي أنا الآخر أن أكون
موضع اختيار، وقد أتاحت لي فرصة كنت أفتقدها لأكون جديراً بهذا الاختيار.
لقد أعادت حقّاً كان في طريقه إلى الضياع.
على مائدة الطعام راح يتأمل (فطمة)، المرأة التي لم يعرف سواها. رفيقة
الدرب التي حملها إليه والداه، منذ زمن يتجاوز عمر صبي يقترب من سنّ
البلوغ. إنّها هي هي منذ عرفها. بسيطة، نظيفة، صامتة، موجودة في كلّ مكان،
حاضرة في كلّ وقت، لا تألو جهداً في سبيل راحته. إنّها الزوجة المثالية،
لكنّها شجرة لا تثمر في حديقة أشجارها محمّلة بالثمار. زهرة لا أريج لها.
سماء لا تمطر. أرض لا تعرف الخصب..
أحسّت (فطمة) أنّ بعلها يعاني من شيء ما. بدا لها حزيناً، كئيباً، فاقتربت منه، وهمست:
- ماذا بك.. يا سيدي؟..
- لا شيء يا فطمة.. لا شيء..
أجاب بسرعة، وصوت المرأة الأخرى يغوص داخل جلبابه، ويلامس ما سكن في أعماقه. كرر وهو يغادر المائدة:
- خير يا فطمة، خير إن شاء الله.
أغفى الشيخ في مكان قيلولته المعتاد، قرب نافذة تطلّ على باحة الجامع. رأى
فطمة في منامه جاثية قرب قدميه. كان وجهها شاحباً، وعيناها جافتين، وشعرها
مبعثراً، وشاهد إحدى قدميه ترتفع وتدفع بها بعيداً، لتتقدم المرأة
الثانية. وجهها مضيء، وعيناها منارتان، وشعرها قطعة من ليل أسود يتخلله
ضياء القمر.. مدّ يده باتجاهها، فناولته طفلاً صغيراً جميلاً، ابتسم له،
وناداه بكلمة(بابا)، فسرّ الشيخ.. حمل الغلام وطار، حلّق في السماء، خال
نفسه طائراً يأخذ به جناحاه إلى فضاء رحب فسيح مغمور بالألوان والأضواء..
استيقظ وفطمة تهدهده، وتربت على أماكن من جسده. في عينيها رأى خوفاً
عظيماً، وعلى قسماتها رأى ألماً فاجعاً، فاستوى في سريره:
- ماذا هناك يا.. فطمة؟..
- كنت تصرخ يا سيدي..
- أصرخ؟ محال. كان حلماً جميلاً.
- اللهم إنّي أقول الصدق..
سوّى نفسه، وهو يتجنّب النظر إلى وجهها. بدأ يحسّ بالذنب مقابل حنانها
الدافق. لقد دفعها بإحدى قدميه، وهذا ما لا يمكن أن يغفره، حتى ولو كان في
أثناء الغفلة. فطمة رغم كلّ شيء لا تستحق الإهانة. لا يمكن أن يفكّر
بإذلالها أو الإساءة إليها، فالإنجاب ليس في مقدورها كأنثى، ولا ذنب لها
فيه، وتلك مشيئة الله، وهذا لا يمنعه أيضاً من المطالبة بحق الأبوة، فهو
رجل يحتاج إلى ما يتمتع به الرجال في النساء والأولاد وأمور الحياة الأخرى
التي لا تتنافى مع الشرائع والأعراف، وحاجته إلى طفل لا تستطيع فطمة
إنجابه، تسمح وتتيح له التفكير في زوجة ولود، مع المحافظة على حقوق فطمة
وكرامتها، وهذا ما سيفعله.
قصد ركنه في الجامع، بعد أن أدّى واجباته المعتادة، وكما توقّع، كانت
المرأة جالسة في المكان الأقرب من ركنه. ابتسم، وحيّاها، ثمّ جلس. سمع
صوتها الواثق المطمئن:
- أحسب أنك توافقني على ما جئت من أجله..
وجد نفسه يجيب:
- أجل..
تابعت:
- على بركة الله..
رفع نظراته إلى وجهها. رأى العينين تشعان حناناً، ثم رأى الطفل الجميل
يحرّك يديه الصغيرتين سعيداً، فشعر أنّ يديه القابضتين على الجمر تحيطان
بجسد الطفل الطري، وترتفعان إلى ما فوق رأسه، وكانت نظراته تجوب أطراف
السماء المغمورة بالضياء.
الموضوع :
قصه احر من الجمر المصدر :
منتديات ابن الفرات ودجله